السخرية على أطراف وجه متجهم
المؤلف : د . طه جزاع
منذ اطلالته الأولى على الشاشة، ودخوله بيوت الناس قبل عصر انتشار الفضائيات، يوم كان التلفزيون واحداً والشاشة واحدة، كان مجيد السامرائي قلقاً متوجساً، يهاب المشاهد أكثر مما يهاب الضيف، ويحسب له ألف حساب، فتقاسيم وجهه البارزة ليست من الصنف الذي يهضمه المتلقي بيسر وسهولة : كث الحاجبين، عريض المنكبين « زي السيد إشطة ضخم الجثة عريض المنكعين مفتوح الفاتحات شنكول الحرقات مشرئب الفلكات مشلهم الأبعاع، شلولخ .. بلغة عادل امام في مسرحية شاهد ما شفش حاجة « غير أن ذلك لم يمنعه عن الإطلالة الأهم في برنامجه الشهير « أطراف الحديث» ولم تفتُّ في عضده غربة طويلة عن بغداد زادت عن 16 عاماً اقتضتها ظروف عمل البرنامج كانت حصيلتها جماهيرية واسعة على مقياس الشهرة في شارع المتنبي ونقاط التفتيش، وملك السيلفي مع المعجبين والمعجبات في المولات بشهادة حسن عبد الحميد، وفي المطارات وجه معروف يعفيه من نزع الحزام حتى لا ينصل البنطلون، ولم يعد يحسب للجمهور خشية، لأنه يعتقد ان التيار الكهربائي مقطوع دوماً بعد قصف الأبراج ! . من المرجح ان السامرائي القافز من قطار الصحافة الورقية إلى ستوديو المخرج المبدع حيدر الأنصاري، ومن « مَقعد أمام الشاشة « إلى مَقعد على الشاشة، كان يفضل لو بقي في جنة جريدة الجمهورية التي يطل منها على القراء مرة في الاسبوع بقلمه الرشيق، كما يشتهي وعلى راحته، من دون ترتيب ولا اناقة، ولا بدلة زرقاء واربطة عنق ملونة، ومشط لتصفيف الشَعر المجعد، وابتسامة يرسمها عنوة على وجه متجهم ليطمئن الضيف ويريح المشاهد ويكسب رضاه ولو على مضض، غير أن الرياح تجري عادة بما لا تشتهي السَّفنُ على رأي المتنبي، وكان على السَّفان مجيد السامرائي أن يرسو في ميناء اضطراري، لكن من دون أن ينسى عشقه الأول : الكتابة الصحفية .في كتابه الذي صدر هذه الأيام في ميونخ والقاهرة « إنتربيت للطائرة والبيت .. مقالات ساخرة « يتنقل السامرائي بين موضوعات متنوعة، ينتمي قسم منها إلى الذكريات وآخر إلى حكايات غربته وأصدقائه والناس البسطاء الذين يلاقيهم يومياً في محل سكنه وعمله أو في الأسواق والشوارع والمطاعم والمقاهي، وعن فزع جائحة كورونا، وعن أيام رمضان الخامس عشر بين رمضانات امضاها في عَمان، وفيها أيضاً أشياء وأشياء من أسلوب واهتمامات زاويته الصحفية القديمة «مَقعد أمام الشاشة» - وكنتُ اغيظه فأبدل فتحة الميم إلى ضمة -! ويحاول في مقالاته التي تعدت الثمانين مقالاً السير وفق أسلوبه الذي عرف به، أسلوب التنقل الفجائي من فكرة إلى فكرة، واعتماد الفذلكة اللغوية، والتلاعب بالألفاظ، والتقاط السخرية في المواقف، ومزج الشخصي بالعام، وبالتالي الاستحواذ على اهتمام القاريء الذي يجد نفسه وهو يتنقل من مقال إلى آخر حتى ينتهي من قراءة الكتاب، إن كان جالساً بمقعده في الطائرة، أو متمدداً على كنبة في البيت، فهو من نوع كتب الجيب، التي تُقرأ في كل مكان، ويمكن حملها إلى أي مكان، وخواطرها أو مقالاتها خفيفة على الوزن والمعدة، فهي ليست أكثر من: « ثرثرات، هرطقات، خزعبلات، ترهات، هيهات ،آهات، ولا ندم على فات» كما يقول عنها كاتبها، أو هي كما قال لي في رسالة شخصية « مزيج كولاج من عدة فنون من السيناريو إلى الارتجال والعفوية والخبرة اللغوية والارتجال في التقديم على الهواء» .كان خضير الحميري رسام الكاريكاتير الخطير، قد تنبأ ذات يوم من العام 1989 بقفزة مجيد السامرائي من الصحافة إلى التلفزيون، وكانا يعملان وقتها معاً في مجلة « ألف باء» فرسم الحميري رسمة ظهر فيها السامرائي وهو يملأ شاشة التلفزيون، وكتب فوقها : نضيع مجيد السامرائي فنجده في دائرة التلفزيون، ونضيّعه مرةً ثانية فنجده يشاهد التلفزيون ونضّيعه ثالثةً فنجده يكتب عن التلفزيون.. أخشى ان نضّيعه في المرة الرابعة فنجده « طالع « بالتلفزيون!! .
وقد تحقق ما تنبأ به الحميري .. والخشية كل الخشية من الطلعة الخامسة لمجيد السامرائي! .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.