مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

هكذا فهمت الله

قيم هذه المقالة
(2 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

 



الحمد لله، خالق كل موجود، كبير العطاء والجود، صانع الوديان والطود، حمد عابدٍ لمعبود، تفكر فرأى، وتأمل فسرى، في خلقٍ عظيم خلقته ايدٍ قادرة، فتفكرت به الانفس الباصرة، ولم تر من بصيرتها الا ما رفع عنه الحجب، كما يبان خيط النور من بين السحب، والحمد لله حمد من وُهب من الحجى ماشكر الله عليه، شكر عابدٍ مؤمن راسخ، لم يجد من حيرته في خلق الله الا ايماناً يقوى، وتمسكاً يشتد، والحمد لله على نعمة العقل، ورجاحة الرأي، ومنعة الذهن، وفراسة الحفظ، وفصاحة اللفظ..
عن تأملٍ وتفكر في خلق الله وعمره، ومسير احداثه ودهره، فإن المفكر المتأمل لما رأى ما كان من حجم الكون، وعدد الحركات فيه والسكون، مما يقود الى فقدان الصواب والجنون، فقد ادرك ان لا شىء يدرَك الا بالخيال، فاستعمل على خياله ذهنه، ليصور الابعاد، ويفك عن الذهن الاصفاد، فوجد ان الخالق لما وضع كل شىءٍ بمقدار، فإنه لم يكن ليجيش قدرته في مراقبة كل كيان، ومتابعة الخلائق في كل زمان ومكان، انما وضع خلقه على سكةٍ ارادها، لها زمانها ومكانها وكيفها ولِماها ومتاها وأينها وماهيتها ودهرها وانقضاءها، ووضع لها من الخلائق زوجين زوجين، فلما باشرت المخلوقات بالتكاثر كانت الا تسير على تلك السكة وتفاصيلها، فغاب الخالق عن متابعة وادراك، انما لما يعلمه من مسير الاحداث، من الارحام الى الاجداث، فالصانع يعلم بعمر مايصنعه، ويعلم بسلوكه ومطبعه، فلا شأن له به الا حين تصنيعه، انما سلوكه فيحدده الصانع قبل خلقه، ويدعه على سكة جريه، حتى تصل المصنوعات الى دهرها الاخير، بعد ان تكون تكاثرت وتناسلت وتحاربت وفنيت وولدت ففنيت وولدت ففنيت، ثم انها ستفقد الامر على نفسها كما تنهار الآلة على مفرداتها، فيضرب الترس الترس، وتدمر العتلة العتلة، ثم ان الصانع ليعلم بعمر صنيعته، وحين يكون عمرها فان، وآن لدمارها الاوان، سيعود لها ليفتقد دمارها، وهو اليوم الذي ترى فيه الآلة وجه صانعها، بعد عمر عملها حتى فنائها.<br> <br> فعِ: انما الكون آلة خالقه، صنعها بأجلٍ يعلمه، ولعمرٍ يعلمه، اتاه لأمرٍ اراده، وخلقه لأمرٍ اراده، وطريقة فناءه لا يعلمها الاهو، فإن آن اوان دمارها، وخرابها وانهيارها، عجل لها بنظره، وتراءت فوق خرابها صوره، وانما لا احد يعجل بانهيارها الا بحسبان بأن التعجيل هو امر محسوب، وإن التأجيل امر محسوب، وكل ما تفكر به او تفعله لأمر ترده غايةً للخروج عن السكة لأمرٍ محسوب، وإنه لما خلق الكون فقد علم بمبدأهِ ونهايته، وسلوكه وتصرفاته، فلم يرقبه بعد خلقه، ولم يعده بعد صنعه، حتى اذا آن حد الخراب، ترائى من فوقه ترائي الصانع على صنيعته، وله الامر حينذاك، ان ينشأ خلقاً غيره او يدعه كالصحف في يمينه، وهو العارف بما تفعله ليس لرقابته عليك، بل لمعرفته بصنيعته، ومآلها وموقتها ووجودها ومفناها، فذلك الصانع الذي تطول في قدرته الالباب، ولا تطال من خطته الاذهان، وما من مصنوعٍ تغلب على فكر صانعه، بل جل من صانع ما اعظمه، وعلى خليقته ما اكرمه، حين وهب اللب والحجى، وعلق القلب بالرجا، وألحق النهار بالسجى.

ثم انه -أي الصانع- ، نزه نفسه عن خلقه ومشابهتهم، وترفع عن توازنهم معه و مكافئتهم، فيجد المتأمل المفكر، إنه لما تموت خلائقٌ من خلائقه، وهو الفخور بصنعه، والممجد لنفسه، فقد يرصف الميت منهم كنفسٍ يريها ماكانت صنيعته وكيف صنعها، كيف مبدأها واين منتهاها، فتمجده وتقدسه، فقد رأت مالا تراه في محياها بعين، ولا تسمع عنه بأذن، ولا تحدث عنه بلسان، فلما ترى مايريها بعد موتها، عندئذ تعلم الغاية والمبتغى من خلقه اياها وخلق سواها، فلا ترى الانفس من خطته وصنيعته ماترى الا بعد فناها، او انه لا يريها حتى ينهار صنعه كله في ميقاته وميعاده الذي يعلمه -أي الصانع-، فيتراءى على خلقه المنهار بميعاده وميقاته، ويجمعهم ليريهم سر الاسرار، وعظمة الصنع الجبار، مما لم يكونوا فيه الا تروساً ومسامير، او خيوطاً ومحاريك، فيكونون بذلك كمن ادى دوراً لايعلمه الا لان الصنع يسير هكذا، فيشتد بهم الذهول، وتجن بما ترى العقول، ولا يكون ذلك الا بانهيار الصنع كله، وتحطم الآلة في موعدها، والمحصلة هي ان لا مخلوق يرى ما صنع الخلائق الا بعد انتهاء دوره في عمل الآلة، فيريه منها بقدر ما يشاء، ويحجب عنها بقدر ما يشاء، وسيريه لسبب عظمته التي تستحق التمجيد، وكيانه الذي لا يكفي وصفه التعظيم، فيذهل من خَلقهم بخلقته، وينبلج سر الاسرار، ويطلع الخلائق على اعظم الاخبار، فيدركون مالم يدركه من قبل احد من بشر، بعد ان يكون الدهر قد فنى وانحسر، ويفهم المصنوع ماكان من الصانع في سره المكنون، الذي لا تدركه الاسماع والعيون، وذلك سر آلته المسماة (الكون).

اما في تنوع انماط الخلائق وامزجتها وتربيتها وتصرفها وخلقها وتعاملها، فقد تجد في بيتٍ واحد اخان ولدا من بطنٍ واحدة، ونهلا من نهدٍ واحد، وتربيا من ام واحدة، وأعيلا من لقمة اب واحد، وتعلما على يد استاذ واحد، لكن احداً منهما لايشبه الاخر في تصرفه وخلقه، بتفرده وفرقه، فأحار الفرق الاباء، وأرق بغرابته العلماء، الا ان المفكر المتأمل قد وجد من بين ما وجده ان الأمر عائد لدور كل فرد في تسيير الآلة وان كانا اخوين من بطن واحدة، وجرى عليهما ما جرى من مضرةٍ او فائدة، فأسمى العلم الاختلاف هذا بشتى الاسماء، وانهمك في تفسير كنهه العلماء، حتى اذا جاؤوا لما وجدوه فسروه بألف تفسير، ثم عادوا للقرار الاخير، بأن لكل امرىءٍ دورٌ وتدبير، فيشذ الأخ عن الأخ، والأخت عن الأخت، وهما كزرعين سقيا من ماءٍ واحد، ولكنها حكمة الصانع بأن يجعل لكل امرءٍ دوره، فما فائدة ان يكون المصنوع كله متشابه؟ لعجل بذلك انهيار الزمان، وتطابق الحدث مع الحدثان، وهذا مالايريده الصانع لصنيعته، بل إنه يعقد غزل خيوط آلته اشد التعقيد، على عكس خلائقه التي تنحى الى التبسيط، وهذا الفرق بين الخالق والمخلوق، والصانع والمصنوع، بأن ينحى كل منهما على عكس الآخر، ولذا ينزه المخلوق المؤمن بالخالق خالقه، ويسبحه ويقدسه، وما في اختلاف المرء واخيه الا آيةٌ عن عظمة تعقيد الآلة الهائلة، ذات التروس الزائلة، وليتخيل المرء ان آلةً بهذا التعقيد والتعشيق ستنهار يوما بانقضاء اجلها، ويتخيل حجم الانهيار الاعظم، والليل المرعب الادهم، حين تنهدُ بتشعباتها الكثيرة، وتروسها الكبيرة، فوق اصغر براغيها ومساميرها وهم الخلائق، حين تبلغ منتهاها الذي قدره صانعها احسن تقدير، ودبر مآلها ومنتهاها ادق تدبير، وذلك ما ادركته النفوس الباصرة على اختلاف دينها وتحزباتها، من ان لها مآلَ خرابٍ لا يُعرف مداه، فأسموه القيامة او البعث، وما هي الا فطرةٌ وضعها الصانع في لب المصنوع يدرك بها ما يدرك، ويترك بها ما يترك، ولتجدن التاركين ينطقون بعدم الايمان، لكن صورة النهاية لديهم في القلوب والوجدان، لا تخفى عن ابسط العقول، ولا عن اعظم النفوس.


رسلي المالكي
القراءات 434 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78729

حاليا يوجد 4 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions